أخبار-ثقافة -فكر دينى – فنون – أثار
من زيتونة مالت على أعتاب بيته إلى نهر الحكمة كانت رحلته , ليصوِّر فى ديوانه رحلة الذات الشاعرة , وهى تفتش عن حكمتها , وخصوصيتها .
وبين الحاضر والذكرى تتشكل معالم هذا الديوان الجديد ” رجفة المقامات ” للشاعر محمد الشحات الذى بدأ رحلته الشعرية فى سبعينيات القرن الماضى , وجاء ديوانه الجديد ليصوِّر أزمة الإنسان المعاصر حين يبحث على أعتاب الحقيقة والخيال , عن ما يبقى , عن الحقيقى والزائف من الرحلة , يتأمل الصبا وأول الشباب , ورحيق المشيب , ليعطى لنا حكمته فى قصائد احتشد لها , فمنها ماعبَّر عن بهجته ومنها ما عبَّر عن أساه , فهو يفتح دفاتر الأب , والجد لعل الابن يأخذ بناصية الحكمة , وتكتمل على شفتيه الحروف , فما كان من أسئلته إلا أن زادت , وما كادت حيرته أن تنقضى حتى تتجدد , لتظل زيتونته المضيئة على عتباته من أجمل قصائد الديوان , ويقول فيها :
” زيتونة / مالت على أعتاب بيتى / فارتميت أشمها / وقعُ الخطى / هز انحناء فروعها / فتساقط الزيتون / قبل أوانه / لم أنتبه / لهشاشة نامت ببطن الأرض /
حين غرستها / فأردت أن أحنو على / أعوادها / وأشدها حتى تستقيم فروعها /
وينام فى حباتها زيت / يُضاء بنور خالقه / إذا ما مسته نار أو لم يُمس / فطاوعنى
وعاد لسابق عهدها / وأظل أهفو كى أشم ثمارها / زيتونة مالت على أعتاب بيتى ”
ويبحث الشاعر عن أيامه ولياليه , عن لحظات فرحه القصيرة , ويفتش فى دفاتر حيرته فإذ به يقف أمام مرآة الذات , يتأمل الظاهر والباطن فيها , هذه الملامح التى عايشته طويلا هل عبرت عنه ؟ , هل حملت دلائل صدقه ؟, أم خاتلته , وباعدت بينه وبين ما أراد أن يكونه ؟ , فيقول الشاعر فى قصيدته ” الجلوس خلف المرآة ” : ” كل يعرف خلف الآخر / وأنا لا أعرف خلفى / لكنى أعرف ضعفى / وأراه يُحلِّق فوق ملامح وجهى / فأحاول أن أنزعه / فيقاومنى / ويفر / كما ينسكب الماء بطيئا/ من قارورته / ويعاندنى / حين أحاول أن أتبع خطوته / لأرى / أين يخبىء ما فات من الأيام ؟ / ويظل يناوش كى أتعثر / لا أملك / إلا أن أجلس / خلف المرآة / أحاول أن أصلح وجهى ” .
وتبدأ رحلة البحث عن الذات السعيدة فى عالم الطفولة فهل وجد الشاعر ما كان به يحلم ؟
فى قصيدته ” البحث عن ملامحى ” يقول : ” ما زال وجهى مرهقا / فأطسه بإناء ماء / وغمسته / فى ليلة / فاضت بها الأنوار / ثم حملته / لينام بالغرف التى / حملت روائح جدتى / أمطرت وجهى / غير أنى / كلما حاولت / أن أخلو به / لا تستقيم ملامحى / قطْر / من الدمعات يهبط / حين تغمرنى فأطفو / فتردنى طفلا يقاوم ضعفه / ويظل يبحث / عن ملامحه التى تاهت هناك / فى دورة لا تنتهى ” .
ويمضى الشاعر متأملا حكمة أبيه , محاولا القبض على جوهرها , وكلما أحسست أنه اقترب منها , وربما أصبح قاب قوسين أو أدنى , وكأن الشاعر سر أبيه , يتساءل عن أسرار حكمته فيقول : ” كيف امتلك غرائزه / وتخلص من سطوتها / وكيف تناغمت الأضداد بداخله / كيف انتبه / لضيق عيون الوجه / فتلمس / أن يملك قلب بصيرته / وأدرك كونيته / فتخلص / من كل شوائبه / لا يتمنى أن يملك / من دنياه / إلا ما يجعله يكملها / كان يحس / بأن عيون أبيه / تراه فى غفوته / فارتبك / ولملم / ما أمكنه أن يأخذه / خاف أن يتحسسه / لينطلق / وحين استيقظ / لم يسأله / كيف يراه ؟ ” .
إلا أنه يكتشف حكمة أخرى , رؤية تخصه وحده , وهنا سر جمال القصيدة , المفارقة بين ما كان يبتغيه , وما وجده , فيقول فى قصيدته ” نهر الحكمة ” : ” حاول , أن يعبر عين أبيه/ ليعرف كيف يرى ؟ / ويدقق فى لُب الأشياء / ليسكنها /
انفتحت كوة أسرار أبيه / فلم يقدر أن ينفذ / كى تتسع رؤاه / فأيقن أن الحكمة / لن يعرفها / إلا حين يغادر عين أبيه ” .
خيوط العمر
قصائد الديوان رحلة مع الذات الشاعرة , رحلة ارتبطت بالكتابة , بالحروف التى هى ثروة الشاعر , وكنزه , وهو يبدع أنشودته , فيقول فى قصيدته ” خيوط العمر ” : ” حتى لا تنفلت خيوط العمر / أبطأ من حدته / كى لا يقطع / بعض خيوط / لا زالت تربطه / بسنين مرت / ثم تراخت / كى لا تمنحه / ما يمكنه أن يكمل رحلته / حاول أن يبطىء / هل تنفلت خيوط العمر / ويغلق صفحته / فلقد ضاق بها / حين اتسعت /
حاول أن يفصل / كل حروف العمر / اشتبكت / وارتبكت / وتطاير منها ما أغضبه ظل يلاحقها / كى يجمعها / فانفرطت أحرفه / فمضى / لا يعرف كيف يُدارى ؟ /
ما خبأه من أيام أسكنها / فى ركن من صفحته / حين امتلأت / كى يخرجها حين يروق لها فانغلقت / وانفلت قطار العمر ولم يلحقه ” .
بهجة الحب وصغيرة الحلم
مكابدات النفس , وأحلامها , ذكرياتها البعيدة والقريبة , والتحديق فى مرآة الذات , ومحاولة اقتناص الحلم تلك هى ملامح هذا الديوان الذى صَّور رجفة المقامات التى جسدها الشاعر فى قصائده , فماذا عن بهجة الحب ؟ , وهل كان طوق نجاة , أطياف حلم ؟ , فى قصيدته ” سرقة حلمى ” يصور لنا الشاعر رائحة العطر الحبيب إذا نشقه , فهل كان له من ورده , ومن شوكه ما اشتهى ؟ , يقول شاعرنا ” مرتين اثنتين / حلمت بها / قالها صاحبى قبل أن تتساقط من صدره شهقة أنهكتنى / كنت أعرف / أن ظهورك فى الحلم / حين تمرين / تاركة عطر صدرك / لن يرتقى / كى يهدىء شوقى / فقلت له حين أفرغ / ما ظل يخفيه / من دفقة الشوق / هل يلتقى حلمنا ؟ / عل فى لحظة / يترقرق قلباهما / أتفيأ ظلى وأغدو / إلى خيمة الكلمات / فنازعنى / كى تكون له / رؤية الحلم / نازعته واستعنت بغلق عيونى / وما أن تحسست نومى / حتى انتبهت لصوت يودعنى / إنه صاحبى الذى فر مختفيا / وقد صاحبته / صغيرة حلمى ” .
وبين البحث وبؤرة الفقد يهبنا الشاعر حكمته , خلاصة رؤيته , وثمارحصاده , حكمة الحياة التى قطرها فى قصائد الديوان , فيقول ” فى الشىء متسعٌ / لمداومة الأخذ / والمنح / متسع للعطاء / فلا تبتئس / حين تفقد شيئك / واظفر بما أنت فيه / بما لم تجده / تخيّل بأن الفضاء / به كل شىء / وأنك تملكه فى يديك / امتلكت الفضاء / بكل نواحيه / لست تفرط فيه / وتعطيه ما قد تساقط / فى رحلة الفقد أو ما تحقق / فى رحلة الوجد / تلقاه / حتى إذا ما انتهيت / لكونية الشىء / صرت الذى ترتجيه / ففى الفقد وجد / وفى الوجد فقد ٌ , وخيط يعلقنا / فاصلا بين شيئين / ما لم
تجده / وما أنت واجده / فى الفضاء البعيد ” .
وتلك هى رؤية الشاعر , قد جسدت الحلم والبحث عن الحكمة فى ” رجفة المقامات ” وترنيمات الذات الشاعرة الباحثة عن صدق المعنى .